محمد بوزلافة: قراءة أكاديمية في التحول الحقوقي والإصلاحي للمملكة في عهد محمد السادس

هشام التواتي
في سياق تخليد الذكرى السادسة والعشرين لاعتلاء صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده عرش أسلافه المنعمين، احتضنت قاعة دار الشباب القدس بفاس ندوة علمية متميزة بعنوان “محمد السادس، مسار ملك ورؤية إصلاحية على مدى 26 عاما”، بتنظيم مشترك بين المرصد الجامعي متعدد التخصصات، ومؤسسة علال بن عبد الله للدراسات، وبتعاون وثيق مع مختبر الدراسات القانونية والسياسية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بفاس. هذا اللقاء العلمي لم يكن فقط لحظة احتفاء بذكرى غالية على قلوب المغاربة، بل شكل كذلك مناسبة تأملية لتقييم التحولات العميقة التي عرفها المغرب طيلة أكثر من ربع قرن من حكم الملك محمد السادس، في مختلف المجالات السياسية والدستورية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية.
تميزت أشغال هذه الندوة بحضور نخبة من الباحثين والأكاديميين، في مقدمتهم الدكتور محمد بوزلافة، عميد كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بفاس، الذي قدم مداخلة محورية تناول فيها التحول الحقوقي والإصلاحي بالمغرب، مسلطا الضوء على البعد الحقوقي والسياسي في المشروع المجتمعي للملك محمد السادس. وانطلق بوزلافة في تحليله من الخطاب الملكي التاريخي ليوم 12 أكتوبر 1999 حول المفهوم الجديد للسلطة، معتبرا إياه منعطفا أساسيا شكل قطيعة مع ممارسات الماضي، ومقدمة لمرحلة جديدة من الحكم الرشيد قوامها حماية الحريات الفردية والجماعية، وتوطيد دولة الحق والقانون.
في مداخلته، حرص الدكتور بوزلافة على التأكيد أن السنوات الست والعشرين من حكم الملك محمد السادس لم تكن مجرد أرقام زمنية، بل شكلت مسارا حافلا بالإنجازات الملموسة في البنية التحتية، كالربط السككي فائق السرعة “البراق”، وإنشاء موانئ استراتيجية من قبيل ميناء طنجة المتوسطي الذي بات ينافس على الصعيد العالمي، ومينائي الناظور والداخلة. وأشار إلى دور هذه المشاريع الكبرى في جذب الاستثمارات الأجنبية، مع تعزيز تكوين اليد العاملة الوطنية لمواكبة التحولات الاقتصادية والاندماج في اقتصاد المعرفة.
وعرج عميد الكلية على البعد الاجتماعي في المشروع الملكي، مبرزا الانتقال من منطق التنمية إلى منطق العدالة الاجتماعية من خلال إطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ومبادرة تعميم الحماية الاجتماعية، وكذا دعم حقوق المرأة عبر مدونة الأسرة سنة 2004، والتي دعا الملك إلى مراجعتها بعد مرور عقدين من صدورها، في تجاوب صريح مع تطلعات المجتمع وتحديات التطبيق.
ولم يغفل الدكتور بوزلافة التطرق إلى الإصلاحات السياسية والدستورية التي همت جوهر النظام السياسي المغربي، ومن بينها إصلاح العدالة سنة 2013، واستقلال السلطة القضائية، واستقلال النيابة العامة سنة 2016، والتحول في السياسة العقابية من خلال إصدار قانون العقوبات البديلة، وهو ما اعتبره مؤشرا على نضج تشريعي يراعي الكرامة الإنسانية ويكرس حقوق الإنسان. كما توقف عند تجربة العدالة الانتقالية المغربية من خلال هيئة الإنصاف والمصالحة التي شكلت، بحسب تعبيره، لحظة مفصلية بلمسة مغربية فريدة في تاريخ المصالحات الوطنية.
وأكد بوزلافة على التحولات الجيوسياسية الكبرى التي واكبت هذا المسار، وعلى رأسها عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي سنة 2017، والانتصارات الدبلوماسية التي تحققت في ملف الصحراء المغربية من خلال سحب الاعتراف من عدد كبير من الدول، وفتح قنصليات أجنبية بالصحراء. كما أشار إلى التحول الطاقي والبيئي عبر مشاريع الطاقة النظيفة، خاصة محطات “نور”، التي جعلت المغرب في طليعة الدول المنتجة للطاقة المتجددة بنسبة تجاوزت 52%.
ولعل أبرز ما ميز تحليل الدكتور بوزلافة، هو الربط الذكي بين الإصلاح المؤسساتي والتشريعي والانفتاح على المعايير الدولية، لا سيما في مجالات حقوق الإنسان، من خلال التصديق على اتفاقيات مناهضة التعذيب، وتفعيل دور المجلس الوطني لحقوق الإنسان كمؤسسة دستورية، وكذا تحديث التشريعات المرتبطة بالحصول على المعلومة، والاستثمار، وإصلاح القضاء العسكري.
الندوة التي احتضنتها مدينة فاس لم تكن فقط لحظة احتفاء، بل محطة فكرية وأكاديمية جسدت انفتاح الجامعة على محيطها المؤسساتي والمدني، وأكدت على دور النخبة العلمية في مواكبة التحولات الوطنية الكبرى بالتحليل والتأصيل والتقييم